فصل: (بَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى



.(فَصْلٌ): [الْمُودَعُ أَمِينٌ]:

(وَالْمُودَعُ أَمِينٌ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا أَمَانَةً بِقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} (يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فِي رَدِّ) الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي قَبْضِهَا، فَقُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؛ أَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِلَا جُعْلٍ، وَيُصَدَّقُ الْوَدِيعُ فِي رَدٍّ (لِمَالِكِهِ)؛ كَوَكِيلِهِ فِي حِفْظِهَا (وَزَوْجَتِهِ)- أَيْ: الْمَالِكِ- وَخَازِنُهُ وَمَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ عَادَةً؛ لِأَنَّ يَدَهُمْ كَيَدِ الْمَالِكِ، فَالدَّفْعُ لَهُمْ كَالدَّفْعِ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْوَدِيعُ الرَّدَّ (عَلَى يَدِ قِنِّهِ)- أَيْ: قِنٌّ مُدَّعِي الرَّدِّ (أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ خَازِنِهِ)- أَيْ: الْوَدِيعِ- قَالَ فِي الْإِنْصَافِ لَوْ ادَّعَى الْأَدَاءَ عَلَى يَدِ عَبْدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ خَازِنِهِ فَكَدَعْوَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ انْتَهَى.
(وَيَتَّجِهُ) أَنَّ الْوَدِيعَ لَوْ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى يَدِ حَافِظِهِ (أَوْ وَكِيلِهِ) نَفْسِهِ يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ حِفْظُهَا بِنَفْسِهِ وَبِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ كَانَ لَهُ دَفْعُهَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَيْدِيَهُمْ كَيَدِهِ، قَالَهُ فِي الْقَوَاعِدِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُ مُدَّعِي الرَّدِّ مِمَّنْ ذَكَرَ بِيَمِينِهِ وَهُوَ مُتَّجِهٌ. أَوْ كَانَتْ دَعْوَى الرَّدِّ مِنْ الْوَدِيعِ (بَعْدَ مَوْتِ رَبِّهَا)- أَيْ: الْوَدِيعَةِ- (إلَيْهِ)- أَيْ: إلَى رَبِّ الْوَدِيعَةِ بِأَنْ ادَّعَى وَرَثَةُ الْمَالِكِ عَلَى الْوَدِيعِ الْوَدِيعَةِ، فَقَالَ: رَدَدْتهَا إلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ؛ قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ؛ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَالِكُ هُوَ الْمُدَّعِي وَأَنْكَرَ، وَيُصَدَّقُ الْوَدِيعُ أَيْضًا بِيَمِينِهِ (فِي قَوْلِهِ) لِمَالِكِهَا (أَذِنْتَ لِي) فِي دَفْعِهَا. (وَيَتَّجِهُ أَوْ) أَيْ: وَيُصَدَّقُ قَوْلُهُ (أَذِنَ لِي) مَالِكُهَا (قَبْلَ مَوْتِهِ) كَدَعْوَاهُ الدَّفْعَ إلَى رَبِّهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ (فِي دَفْعِهَا لِفُلَانٍ أَمَانَةً وَفَعَلْتُ)؛ أَيْ: وَدَفَعَتْهَا إلَيْهِ، وَأَنْكَرَ الْمَالِكُ الْإِذْنَ فِي دَفْعِهَا. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ وَقُطِعَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ وَالْمُذَهَّبِ ومَسْبُوكِ الذَّهَبِ وَالْمُسْتَوْعِبِ والْخُلَاصَةِ وَالْمُغْنِي وَالتَّلْخِيصِ وَالشَّرْحِ وَالْمُحَرَّرِ وَالْفَائِقِ وَالْوَجِيزِ وَغَيْرِهِمْ. (وَيَتَّجِهُ) أَنَّهُ يُصَدَّقُ مِنْ ادَّعَى أَنَّهُ مَأْذُونٌ مِنْ قِبَلِ الْمَالِكِ قَبْلَ مَوْتِهِ فِي الدَّفْعِ لِفُلَانٍ، (وَلَوْ كَذَّبَهُ فُلَانٌ)، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى تَكْذِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَ ادَّعَى دَفْعًا يَبْرَأُ بِهِ مِنْ الْوَدِيعَةِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ؛ كَمَا لَوْ ادَّعَى رَدَّهَا إلَى مَالِكِهَا، وَلَا يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمَالِكِ غَيْرُ الْيَمِينِ لَمَّا لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِهِ؛ وَكَذَا إنْ اعْتَرَفَ الْمَالِكُ بِالْإِذْنِ فِي الدَّفْعِ لَهُ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ دَفَعَ لَهُ قُبِلَ قَوْلُ الْوَدِيعِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ أَنْكَرَ حَلَفَ وَبَرِئَ، وَفَاتَتْ عَلَى رَبِّهَا إنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ وَدِيعًا، وَإِنْ كَانَ دَائِنًا قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَضَمِنَ الدَّافِعُ إنْ لَمْ يَشْهَدْ؛ لِتَقْصِيرِهِ، صَدَّقَ الْمَالِكَ أَوْ كَذَّبَهُ، وَهَذَا الِاتِّجَاهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. وَيُصَدَّقُ وَدِيعٌ بِيَمِينِهِ (فِي) دَعْوَى (تَلَفٍ) لِلْوَدِيعَةِ (بِسَبَبٍ خَفِيٍّ) كَالسَّرِقَةِ؛ لِتَعَذُّرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مِثْلِ هَذَا السَّبَبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُولِ الْأَمَانَاتِ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُسْتَوْدِعَ إذَا أَحْرَزَ الْوَدِيعَةَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا ضَاعَتْ؛ قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَذْكُرْ السَّبَبَ. (أَوْ) دَعْوَى تَلَفِ الْوَدِيعَةِ بِسَبَبٍ (ظَاهِرٍ) كَحَرِيقٍ وَغَرَقٍ وَنَهْبِ جَيْشٍ إنْ (ثَبَتَ وُجُودُهُ) بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ بِوُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ؛ قُبِلَتْ دَعْوَاهُ، ثُمَّ يَحْلِفُ مَعَ الْبَيِّنَةِ أَنَّ الْوَدِيعَةَ تَلِفَتْ بِذَلِكَ السَّبَبِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ ضَمِنَ الْوَدِيعَةَ، لِأَنَّهُ لَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَيَكْفِي فِي ثُبُوتِ السَّبَبِ الظَّاهِرِ الِاسْتِفَاضَةُ. قَالَهُ فِي التَّلْخِيصِ وَالرِّعَايَتَيْنِ وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ وَغَيْرِهَا، فَعَلَى هَذَا إذَا عَلِمَهُ الْقَاضِي بِالِاسْتِفَاضَةِ قُبِلَ قَوْلُ الْوَدِيعِ بِيَمِينِهِ، وَلَمْ يُكَلَّفْ بَيِّنَةً تَشْهَدُ بِالسَّبَبِ، وَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ بِالْعِلْمِ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الطُّرُقِ الْحُكْمِيَّةِ فِي الْحُكْمِ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَوْ بِخُصُوصِ هَذِهِ، وَيُصَدَّقُ الْوَدِيعُ بِيَمِينِهِ أَيْضًا (فِي عَدَمِ خِيَانَةٍ وَ) عَدَمِ (تَفْرِيطٍ وَفِي حِرْزِ مِثْلٍ) بِلَا نِزَاعٍ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَالْأَصْلُ بَرَاءَتُهُ، وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فِيمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ. (وَإِنْ ادَّعَى) الْوَدِيعُ: (رَدَّهَا)- أَيْ الْوَدِيعَةِ (لِحَاكِمٍ أَوْ وَرَثَةِ مَالِكٍ) لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتَمِنُوهُ، (أَوْ) ادَّعَى (رَدًّا بَعْدَ مَطْلِهِ) أَيْ: تَأْخِيرِ دَفْعِهَا إلَى مُسْتَحَقِّهِ (بِلَا عُذْرٍ) ثُمَّ ادَّعَى تَلَفًا؛ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَطْلِ بَطَلَ الِاسْتِئْمَانُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رَدًّا بَعْدَ مَنْعِهِ مِنْهَا؛ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْغَاصِبِ (أَوْ وَعَدَهُ)؛ أَيْ: وَعَدَ الْوَدِيعُ الْمَالِكَ (رَدَّهُ)- أَيْ: مَا أَوْدَعَهُ- (ثُمَّ ادَّعَاهُ)؛ أَيْ: ادَّعَى الْوَدِيعُ الرَّدَّ، أَوْ ادَّعَى (تَلَفَهُ قَبْلَ وَعْدِهِ) بِرَدِّهِ [إلَيْهِ] أَوْ ادَّعَى (وَرَثَتُهُ)- أَيْ: الْوَدِيعِ- (رَدًّا) مِنْهُمْ أَوْ مِنْ مُوَرِّثِهِمْ (وَلَوْ لِمَالِكٍ) (أَوْ) ادَّعَى وَرَثَةُ الْوَدِيعِ (أَنَّ مُوَرِّثَهُمْ رَدَّهَا)- أَيْ: الْوَدِيعَةَ- قَبْلَ مَوْتِهِ؛ (لَمْ يُقْبَلْ) ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْتَمَنِينَ عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ مَالِكِهَا وَكَذَا لَوْ ادَّعَاهُ مُلْتَقِطٌ أَوْ مَنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلَى دَارِهِ ثَوْبًا أَوْ نَحْوَهُ، فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. (وَيَتَّجِهُ وَكَذَا) فِي الْحُكْمِ (كُلُّ مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ) بِيَمِينِهِ مِنْ الْأُمَنَاءِ كَالشَّرِيكِ وَالْوَكِيلِ مَجَّانًا وَالْمُرْتَهِنِ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْوَدِيعِ وَهُوَ مُتَّجِهٌ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ بِأَنْ (قَالَ) لَمْ يُودِعْنِي (ثُمَّ أَقَرَّ) بِالْإِيدَاعِ أَوْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْوَدِيعَةُ (بِبَيِّنَةٍ، فَادَّعَى رَدًّا أَوْ تَلَفًا سَابِقَيْنِ لِجُحُودِهِ؛ لَمْ يُقْبَلْ) مِنْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا بِجُحُودِهِ مُعْتَرِفًا عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ الْمُنَافِي لِلْأَمَانَةِ، (وَلَوْ) أَتَى عَلَيْهِ (بِبَيِّنَةٍ) بِالرَّدِّ أَوْ التَّلَفِ، (وَأَطْلَقَتْ) الْبَيِّنَةُ الشَّهَادَةَ، بِأَنْ لَمْ تُقَلْ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ؛ فَلَا تُسْمَعُ؛ لِتَكْذِيبِهِ لَهَا بِجُحُودِهِ؛ وَإِنْ ادَّعَى رَدًّا أَوْ تَلَفًا بَعْدَ جُحُودِهِ؛ كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ الْوَدِيعَةِ يَوْمَ الْأَحَدِ، فَجَحَدَهَا، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ رَدَّهَا أَوْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً شَاهِدَيْنِ؛ قُبِلَا، وَلِهَذَا أُشِيرَ بِقَوْلِهِ (وَيُقْبَلَانِ)- أَيْ الرَّدُّ وَالتَّلَفُ- إذَا أَدَّاهُمَا (بِهَا)- أَيْ: الْبَيِّنَةِ- (بَعْدَهُ)- أَيْ: الْجُحُودِ- لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِمُكَذِّبٍ لَهَا. (وَلَا ضَمَانَ) عَلَى وَدِيعٍ (بِتَرْكِهَا)- أَيْ: الْوَدِيعَةِ- (عِنْدَهُ اخْتِيَارًا)- أَيْ: بِاخْتِيَارِ رَبِّهَا بَقَاءَهَا- (بَعْدَ ثُبُوتِهَا) عِنْدَ الْوَدِيعِ؛ لِأَنَّهَا بِإِبْقَاءِ رَبِّهَا لَهَا بِاخْتِيَارِهِ تَعُودُ أَمَانَةً (وَإِنْ قَالَ) مُدَّعَى عَلَيْهِ بِوَدِيعَةٍ فِي جَوَابِهِ (مَالك عِنْدِي شَيْءٌ وَنَحْوَهُ)؛ كَلَا حَقَّ لَك قِبَلِي، ثُمَّ أَقَرَّ بِالْإِيدَاعِ، أَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ؛ (قُبِلَ) مِنْهُ (بِيَمِينِهِ رَدٌّ أَوْ تَلَفٌ سَبَقَا جُحُودَهُ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَافٍ لِجَوَابِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أُودِعَهُ، ثُمَّ تَلِفَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، أَوْ رَدَّهَا، فَلَا يَكُونُ لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ وَ(لَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى) وُقُوعِ الرَّدِّ وَالتَّلَفِ (بَعْدَهُ)- أَيْ: بَعْدَ جُحُودِهِ- (بِلَا بَيِّنَةٍ) لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ بِالْجُحُودِ، فَيُشْبِهُ الْغَاصِبَ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ وَدِيعَةٍ تَثْبُتُ أَنَّهَا تَلِفَتْ بِبَيِّنَةٍ، مَا لَمْ يَكُنْ جَدَّدَ عَقْدًا بَعْدَ الْجُحُودِ (وَ) إنْ قَالَ إنْسَانٌ لِآخَرَ: (لَك عِنْدِي وَدِيعَةٌ، ثُمَّ ادَّعَى) الْمُقِرُّ (ظَنَّ الْبَقَاءِ)- أَيْ: قَالَ: كُنْت أَظُنُّهَا بَاقِيَةً ثُمَّ عَلِمْت (تَلَفَهَا، قُبِلَ قَوْلُهُ) بِيَمِينِهِ.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ قُلْت: وَهُوَ الصَّوَابُ (خِلَافًا لَهُ)- أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ فِي قَوْلِهِ: لَوْ قَالَ: لَك عِنْدِي وَدِيعَةٌ، ثُمَّ ادَّعَى ظَنَّ الْبَقَاءِ، ثُمَّ عَلِمَ تَلَفَهَا؛ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ. (وَإِذَا مَاتَ نَحْوُ مُودَعٍ) كَوَكِيلٍ وَشَرِيكٍ (وَمُرْتَهِنٍ وَمُضَارِبٍ) وَانْتَقَلَتْ نَحْوُ الْوَدِيعَةِ إلَى يَدِ مَنْ بَعْدَهُ؛ فَالْوَاجِبُ (عَلَى وَارِثِهِ) الْمُنْتَقَلِ إلَيْهِ ذَلِكَ فَوْرًا مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ (أَحَدُ شَيْئَيْنِ، خِلَافًا لِلْمُنْتَهَى) حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى الرَّدِّ فَقَطْ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَلِفَتْ عِنْدَ وَارِثٍ قَبْلَ إمْكَانِ رَدِّهَا؛ لَمْ يَضْمَنْهَا، وَإِلَّا ضَمِنَ، فَإِنَّهُ حَصَرَ الضَّمَانَ بِالتَّلَفِ بَعْدَ إمْكَانِ الرَّدِّ مَعَ أَنَّ صَرِيحَ كَلَامِهِمْ قَاضٍ بِوُجُوبِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، إمَّا (إعْلَامِ مَالِكٍ) بِمَوْتِ الْوَدِيعِ (أَوْ رَدِّهَا)؛ كَمَا فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالْمُغْنِي وَالْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحِ (مُطْلَقًا)؛ أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ لِرَدِّهَا مُؤْنَةٌ أَوْ لَا، (وَلَا) يَجُوزُ لِمَنْ هِيَ بِيَدِهِ أَنْ (يُمْسِكَهَا) قَبْلَ إعْلَامِ رَبِّهَا بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ عَلَيْهَا؛ وَإِنَّمَا حَصَّلَ مَالَ غَيْرِهِ بِيَدِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلَى دَارِهِ ثَوْبًا، وَعَلِمَ بِهِ، فَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ مَعَ الْإِمْكَانِ؛ ضَمِنَ. قَالَهُ فِي الشَّرْحِ (بِلَا إذْنٍ) مِنْ مَالِكِهَا (لِزَوَالِ حُكْمِ الِائْتِمَانِ) بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ (فَإِنْ تَلِفَتْ) الْوَدِيعَةُ عِنْدَ وَارِثٍ (قَبْلَ إمْكَانِ ذَلِكَ)- أَيْ: الْإِعْلَامِ- أَوْ الرَّدِّ إلَى رَبِّهَا لِنَحْوِ جَهْلٍ بِهَا أَوْ بِهِ (لَمْ يَضْمَنْهَا) إذْ لَمْ يُفَرِّطْ بِلَا نِزَاعٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ (وَإِلَّا) بِأَنْ تَلِفَتْ بَعْدَ إمْكَانِ رَدِّهَا إلَى رَبِّهَا أَوْ إعْلَامِهِ بِمَوْتِ الْوَدِيعِ، فَلَمْ يَفْعَلْ (ضَمِنَ) لِتَأَخُّرِ رَدِّهَا أَوْ الْإِعْلَامِ مَعَ إمْكَانِهِ وَحُصُولِهَا بِيَدِهِ بِلَا إيدَاعٍ، بِخِلَافِ عَبْدٍ أَوْ حَيَوَانٍ دَخَلَ دَارِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَهُ لِيَذْهَبَ كَمَا جَاءَ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الْقَوَاعِدِ. وَقَوْلُهُ: (وَلَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ فَقَطْ خِلَافًا لِلْمُنْتَهَى) تَصْرِيحٌ بِمَا عَلِمَ سَابِقًا وَإِنَّمَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ (لِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ) كَالْمُسْتَأْجَرِ (وَكَذَا كُلُّ مَنْ حَصَلَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ بِلَا ائْتِمَانٍ) مِنْ صَاحِبِهَا (كَلُقَطَةٍ وَثَوْبٍ أَطَارَتْهُ رِيحٌ لِدَارِهِ)، وَعَلِمَ بِهِ؛ فَعَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إلَى الرَّدِّ مَعَ الْعِلْمِ بِصَاحِبِهَا وَالتَّمَكُّنِ مِنْهُ أَوْ إعْلَامِهِ. ذَكَرَهُ جَمْعٌ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَالْمُحَرَّرِ وَالْمُسْتَوْعِبِ وَذَكَرَ نَحْوَهُ ابْنُ عَقِيلٍ حُكْمًا فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ قَالَ فِي الْإِنْصَافِ وَهُوَ مُرَادُ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ مَعَ الْإِمْكَانِ؛ ضَمِنَ (وَكَذَا لَوْ عَزَلَ نَفْسَهُ نَحْوَ مُودَعٍ)- بِفَتْحِ الدَّال- كَعَدْلٍ بِيَدِهِ الرَّهْنُ (وَمُرْتَهِنٌ وَوَكِيلٌ وَمُضَارِبٌ وَشَرِيكٌ) فَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ عَلَى الْفَوْرِ. (وَيَتَّجِهُ) عَلَى الْأَمِينِ رَدُّ مَا ذَكَرَ لِإِخْرَاجِهِ نَفْسَهُ مِنْ الِائْتِمَانِ (لَا إنْ عَزَلَهُ)- أَيْ: الْأَمِينَ (مَالِكٌ) وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْهُ التَّسْلِيمَ (خِلَافًا لَهُ)- أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ كَذَا قَالَ، وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ لَوْ فَسَخَ الْمَالِكُ عَقْدَ الِائْتِمَانِ فِي الْأَمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى الْفَوْرِ؛ بِزَوَالِ الِائْتِمَانِ؛ انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ فِي الْإِنْصَافِ. وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ فِي قَوَاعِدِهِ: وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْأَمَانَاتِ إذَا فَسَخَهَا الْمَالِكُ كَالْوَدِيعَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى الْفَوْرِ لِزَوَالِ الِائْتِمَانِ. صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَسْخُ فِي حَضْرَةِ الْأَمِينِ أَوْ غَيْبَتِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَجِبُ فِعْلُ الرَّدِّ، فَإِنَّ الْعِلْمَ هُنَا حَاصِلٌ لِلْمَالِكِ. انْتَهَى.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَمِينَ إنْ كَانَ أَزَالَ الِائْتِمَانَ بِعُزْلَةِ نَفْسَهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إلَى الرَّدِّ أَوْ الْإِعْلَامِ، وَإِنْ كَانَ الْعَزْلُ صَدَرَ مِنْ الْمَالِكِ، وَطَلَبَ الرَّدَّ؛ وَجَبَ عَلَى الْأَمِينِ التَّمْكِينُ مِنْ الرَّدِّ، قَالَ فِي الْقَوَاعِدِ فَمَتَى كَانَ الْمَالِكُ عَالِمًا، وَلَمْ يَطْلُبْ؛ فَلَا ضَمَانَ إذَا لَمْ تَكُنْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ وَاجِبَةً عَلَى مَنْ هُوَ عِنْدَهُ، وَهَذَا حَسَنٌ. انْتَهَى.
تَتِمَّةٌ:
الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ إلَى رَدِّهَا بِكُلِّ حَالٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ حُصُولُهَا فِي يَدِهِ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ أَوْ مَحْظُورٍ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَالْأَوَّلُ كَالْعَوَارِيِّ يَجِبُ رَدُّهَا إذَا اسْتَوْفَى مِنْهَا الْغَرَضَ الْمُسْتَعَارَ لَهُ، قَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَهَذَا إذَا انْتَهَى قَدْرُ الِانْتِفَاعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، مُتَوَجِّهٌ، وَسَوَاءٌ طَالَبَ الْمَالِكُ أَوْ لَمْ يُطَالِبْ؛ لِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمَضْمُونَاتِ، فَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْمَقْبُوضِ، وَكَذَا حُكْمُ الْمَقْبُوضِ لِلسَّوْمِ وَالثَّانِي كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ (أَوْ)؛ أَيْ: وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ رَدُّ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ إذَا (انْقَضَتْ إجَارَةٌ أَوْ)؛ أَيْ: وَعَلَى الْمُرْتَهِنِ إذَا (وُفِّيَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ- (دَيْنٌ بِرَهْنٍ) رَدُّ الرَّهْنِ لِمَالِكِهِ. صَرَّحَ بِهِمَا الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ قِيَاسًا عَلَى الْأَمَانَةِ إذَا فَسَخَهَا الْمَالِكُ، مَعَ أَنَّ الْقَاضِيَ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي خِلَافِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ فِعْلُ الرَّدِّ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الرَّهْنِ لَا يَجِبُ فِعْلُ الرَّدِّ، وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ فِي الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ فِعْلُ الرَّدِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِي الرَّهْنِ كَذَلِكَ انْتَهَى.
وَالْعَجَبُ مِنْ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَطَعَ هُنَا بِوُجُوبِ الرَّدِّ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي آخَرِ الْإِجَارَةِ مَا نَصُّهُ: فَصْلٌ: وَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ إجَارَةٍ رَفَعَ مُسْتَأْجَرٌ يَدَهُ عَنْ مُؤَجَّرِهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُ وَلَا مُؤْنَتُهُ كَمُودِعٍ وَمُرْتَهِنٍ وُفِيَ، وَتَكُونُ أَمَانَةً بِيَدِهِ، فَلَا تُضَمَّنُ بِلَا تَفْرِيطٍ، وَقَالَ فِي الْإِنْصَاف.
فَائِدَةٌ:
إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ رَفَعَ الْمُسْتَأْجَرُ يَدَهُ عَنْ الْمَأْجُورِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الرَّدُّ عَلَى الْمَذْهَبِ مُطْلَقًا، وَلَوْ تَلِفَتْ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ رَدِّهِ، لَمْ يَضْمَنْهُ. جَزَمَ بِهِ فِي التَّلْخِيصِ فِي بَابِ الْوَدِيعَةِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الِانْتِفَاعِ دُونَ الْإِذْنِ فِي الْحِفْظِ، وَمُؤْنَتُهُ كَمُودَعٍ. انْتَهَى.
وَاَلَّذِي تَحَرَّرَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ هُنَا مَشَى عَلَى الْمَرْجُوحِ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْإِجَارَةِ، فَتَنَبَّهْ لَهُ. (وَيَضْمَنُ مَنْ)- أَيْ: وَدِيعٌ- (أَحْرَزَهَا)- أَيْ: الْوَدِيعَةَ- بِأَنْ لَمْ يُمَكِّنْ مَالِكَهَا مِنْ أَخْذِهَا (بَعْدَ طَلَبٍ)، فَإِنْ أَخَّرَ الرَّدَّ بَعْدَ طَلَبِهَا (بِلَا عُذْرٍ) فِي تَأْخِيرِهِ؛ ضَمِنَ إنْ تَلِفَتْ، أَوْ نَقَصَتْ كَالْغَاصِبِ، وَإِنْ طَلَبَهَا فِي وَقْتٍ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا إلَيْهِ بَعْدَهَا، أَوْ لِمُخَالَفَةٍ فِي طَرِيقِهَا أَوْ لِلْعَجْزِ عَنْهَا وَعَنْ حَمْلِهَا؛ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ تَسْلِيمِهَا، وَلَمْ يَضْمَنْهَا، لِعَدَمِ عُدْوَانٍ، وَمِثْلُهُ مَنْ (أَخَّرَ مَالًا أَمَرَ)؛ أَيْ: أَمَرَهُ مَالِكُهُ (بِدَفْعِهِ) إلَى وَكِيلِهِ (بَعْدَ إمْكَانٍ) مِنْ دَفْعِهِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى تَلِفَ؛ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ- (وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْ) الْوَكِيلُ ذَلِكَ- لِأَنَّهُ أَمْسَكَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ (خِلَافًا لِلْمُنْتَهَى) فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَنْ أَخَّرَ رَدَّهَا أَوْ مَالًا أُمِرَ بِدَفْعِهِ بَعْدَ طَلَبٍ بِلَا عُذْرٍ؛ ضَمِنَ. وَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ الْمَذْهَبُ. صَحَّحَهُ فِي الْفُرُوعِ وَمَشَى عَلَيْهِ فِي الْإِقْنَاعِ. (وَيُمْهَلُ) مَنْ طُولِبَ بِوَدِيعَةٍ أَوْ بِمَالٍ أُمِرَ بِدَفْعِهِ إلَى مُسْتَحَقِّهِ (لِنَحْوِ أَكْلٍ) كَكَوْنِهِ فِي حَمَّامٍ إلَى قَضَاءِ غَرَضِهِ (كَهَضْمِ) طَعَامٍ (وَنَوْمٍ) إلَى أَنْ يَسْتَيْقِظَ (وَمَطَرٍ وَطُهْرٍ بِقَدْرِهِ، فَلَا تُضَمَّنُ) الْوَدِيعَةُ (بِتَلَفِ زَمَنِهِ)- أَيْ: الْعُذْرِ- لِعَدَمِ عُدْوَانِهِ. (وَتَثْبُتُ وَدِيعَةٌ حُكْمًا بِإِقْرَارِ) وَدِيعٍ؛ بِأَنْ أَقَرَّ أَنَّهَا لِفُلَانٍ أَوْ إقْرَارِ (وَارِثٍ) لِلْوَدِيعِ بَعْدَهُ، أَوْ وُجُودِ (نَحْوِ بَيِّنَةٍ) كَأَمَارَةٍ ظَاهِرَةٍ، بِأَنْ وُجِدَ إنَاءٌ ذَهَبٌ أَوْ جَوْهَرٌ عِنْدَ فَقِيرٍ، وَادَّعَاهُ غَنِيٌّ مَعْرُوفٌ بِاقْتِنَاءِ ذَلِكَ؛ لِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُ، وَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ بِعَيْنِهَا وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ سِوَاهَا فَهُمَا سَوَاءٌ إنْ وَفَّتْ بِهِمَا، وَإِلَّا تَحَاصَّا؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ وَجَبَا فِي ذِمَّتِهِ، فَتَسَاوَيَا كَالدَّيْنَيْنِ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ فِي تَرِكَتِهِ مِنْ جِنْسِ الْوَدِيعَةِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَقِيلَ: لَا يُعْمَلُ (بِخَطِّ مُوَرِّثٍ خَلَا عَنْهُمَا)- أَيْ: عَنْ الْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ، (خِلَافًا لَهُمَا)- أَيْ: لِلْمُنْتَهَى وَالْإِقْنَاعِ (وَإِنْ لَزِمَهُ الْعَمَلُ بِهِ بَاطِنًا مَعَ تَحَقُّقِهِ) أَنَّهُ خَطُّ مُوَرِّثِهِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَالْمُوَفَّقُ كَأَنْ وُجِدَ مَكْتُوبًا عَلَى وِعَاءٍ (هَذَا وَدِيعَةٌ أَوْ) هَذَا (لِفُلَانٍ)؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْوِعَاءَ كَانَتْ فِيهِ وَدِيعَةٌ قَبْلَ هَذِهِ، أَوْ كَانَ وَدِيعَةً لِلْمَيِّتِ عِنْدَ غَيْرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَعِبَارَةُ الْمُنْتَهَى وَيُعْمَلُ بِخَطِّ مُوَرِّثِهِ عَلَى كِيسٍ وَنَحْوِهِ هَذَا وَدِيعَةٌ أَوْ لِفُلَانٍ، وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ وَإِنْ وَجَدَ خَطَّ مُوَرِّثِهِ لِفُلَانٍ عِنْدِي وَدِيعَةٌ أَوْ عَلَى كِيسٍ وَنَحْوِهِ هَذَا لِفُلَانٍ، عُمِلَ بِهِ وُجُوبًا. وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَإِنْ وُجِدَ خَطُّ مُوَرِّثِهِ لِفُلَانٍ عِنْدِي وَدِيعَةٌ أَوْ عَلَى كِيسٍ هَذَا لِفُلَانٍ عُمِلَ بِهِ وُجُوبًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُعْمَلُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: هَذَا الْمَذْهَبُ نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ فِي الْوَصِيَّةِ وَنَصَرَهُ غَيْرُهُ، وَقَالَ: قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَكْرُوسٍ، وَقَدَّمَهُ فِي التَّلْخِيصِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْخِلَافِ. انْتَهَى.
هَكَذَا وَجَدْتُهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا وَيَعْمَلُ وَارِثٌ وُجُوبًا (بِخَطِّ مُوَرِّثٍ) وَجَدَهُ مَكْتُوبًا عَلَى كِيسٍ أَوْ صُنْدُوقٍ أَوْ كِتَابٍ ثَبَتَ أَنَّهُ خَطُّهُ بِهِمَا- أَيْ: بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارِ مُوَرِّثٍ بِذَلِكَ- كَقَوْلِهِ (هَذَا وَدِيعَةٌ) عِنْدِي أَوْ هَذَا (لِفُلَانٍ) نَصًّا، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمَذْهَبَ مَا قَالَاهُ؛ إذْ ثُبُوتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ لَا يَسْتَرِيبُ بِهِ عَاقِلٌ، وَكِلْتَا الْعِبَارَتَيْنِ لَا تَخْلُوَانِ عَنْ تَحْرِيفٍ مِنْ النُّسَّاخِ أَوْ سَهْوٍ مِنْ الْمُصَنِّفِ، (وَ) إنْ وَجَدَ وَارِثٌ خَطَّ مُوَرِّثِهِ (بِدَيْنٍ عَلَيْهِ) عَلَى مُوَرِّثِهِ لِمُعَيَّنٍ؛ عُمِلَ بِهِ وُجُوبًا، وَدُفِعَ الدَّيْنُ إلَى مَنْ هُوَ مَكْتُوبٌ بِاسْمِهِ كَالْوَدِيعَةِ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْخِلَافِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا قَطَعَ بِهِ فِي إعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ وَقَدَّمَهُ فِي التَّلْخِيصِ وَصَحَّحَهُ فِي النَّظْمِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَارِثِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْكِتَابَةُ بِالدُّيُونِ عَلَيْهِ كَالْكِتَابَةِ الْوَدِيعَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ السَّامِرِيُّ وَصَاحِبُ التَّلْخِيصِ انْتَهَى.
أَوْ وَجَدَ خَطَّ مُوَرِّثِهِ بِدَيْنٍ (لِفُلَانٍ) هَكَذَا فِي النُّسَخِ صَوَابُهُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ لِيُوَافِقَ مَا فِي الْمُتُونِ، فَيَعْمَلُ الْوَارِثُ بِخَطِّ مُوَرِّثِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ (يَحْلِفَ) عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ ذَلِكَ. (وَيَتَّجِهُ) جَوَازُ الْحَلِفِ (مَعَ) وُجُودِ (شَاهِدٍ) بِالدَّيْنِ، فَيَحْلِفُ (اعْتِمَادًا عَلَى خَطِّ مُوَرِّثِهِ الصَّدُوقِ) الْأَمِينِ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَيُعْتَقَدُ أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ إلَّا حَقًّا، وَيَسْتَحِقُّ الدَّيْنَ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَيَطِيبُ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ فُلَانٍ، قَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ وَالْفُرُوعِ وَشَرْحِ الْحَارِثِيِّ وإعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ فَيَجُوزُ الْحَلِفُ عَلَى مَا لَا تَجُوزُ بِهِ الشَّهَادَةُ؛ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ أَبِيهِ وَغَيْرِهِمَا إذَا رَآهَا بِخَطِّهِ، [(وَإِلَّا) يَعْلَمْ صِدْقَ مُوَرِّثِهِ (فَلَا) يَجُوزُ لَهُ الْحَلِفُ وَلَوْ مَعَ وُجُودِ شَاهِدٍ فَقَطْ]، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَإِنْ ادَّعَاهَا)- أَيْ: الْوَدِيعَةَ- (اثْنَانِ، فَأَقَرَّ) الْوَدِيعُ (لِأَحَدِهِمَا)؛ فَهِيَ (لَهُ)- أَيْ: لِلْمَقَرِّ لَهُ- (بِيَمِينِهِ) بِلَا نِزَاعٍ؛ لِأَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْوَدِيعِ، وَقَدْ نَقَلَهَا إلَى الْمُدَّعِي، فَصَارَتْ الْيَدُ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ الْيَدُ لَهُ قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَمِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ لَوْ قَالَ الْوَدِيعُ: أَوْدَعَنِيهَا الْمَيِّتُ، أَوْ قَالَ: هِيَ لِفُلَانٍ، وَقَالَ وَرَثَتُهُ: بَلْ هِيَ لَهُ. أَفْتَى الشَّيْخُ التَّقِيُّ بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَدِيعِ مَعَ يَمِينِهِ. (وَيَحْلِفُ) الْوَدِيعُ أَيْضًا لِلْمُدَّعِي (الْآخِرِ) الَّذِي أَنْكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لَدَعْوَاهُ، وَتَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ قَالَهُ فِي الْمُبْدِعِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِيءَ وَإِلَّا يَحْلِفُ لَزِمَهُ- أَيْ: الْوَدِيعَ- بَدَلُهَا؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَهَا عَلَى الْمُدَّعِي، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ بِهَا لِلْأَوَّلِ، فَتُسَلَّمُ لِلْأَوَّلِ، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا لِلثَّانِي نَصًّا، وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا (لَهُمَا) مَعًا فَهِيَ (لَهُمَا)- أَيْ: بَيْنَهُمَا- كَمَا لَوْ كَانَتْ بِأَيْدِيهِمَا وَتَدَاعَيَاهَا، (وَيَحْلِفُ لِكُلِّ) وَاحِدٍ (مِنْهُمَا) يَمِينًا عَلَى نِصْفِهَا، (فَإِنْ نَكَلَ) عَنْ الْيَمِينَيْنِ؛ (لَزِمَهُ لِكُلِّ) وَاحِدٍ مِنْهُمَا (نِصْفُ بَدَلِ) نِصْفِهَا، (وَإِنْ نَكَلَ) عَنْ الْيَمِينِ (لِأَحَدِهِمَا) فَقَطْ؛ (لَزِمَهُ لَهُ)- أَيْ: لِمَنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَهُ عِوَضُ (نِصْفِهِ، وَ) يَلْزَمُ أَنْ (يَحْلِفَ كُلُّ) وَاحِدٍ مِنْهُمَا (لِصَاحِبِهِ)؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لَدَعْوَاهُ. (وَإِنْ قَالَ) الْوَدِيعُ جَوَابًا لِدَعْوَاهُمَا: (لَا أَعْرِفُ صَاحِبَهَا) مِنْكُمَا (وَصَدَّقَاهُ) عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا (أَوْ سَكَتَا) عَنْ تَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ؛ (فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ)؛ إذْ لَا اخْتِلَافَ، (وَاقْتَرَعَا) فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ سُلِّمَتْ إلَيْهِ بِيَمِينِهِ، (وَإِنْ كَذَّبَاهُ) بِأَنْ قَالَا: بَلْ تَعْرِفُ أَيُّنَا صَاحِبُهَا، أَوْ كَذَّبَهُ (أَحَدُهُمَا حَلَفَ) لَهُمَا (يَمِينًا وَاحِدَةً أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ)؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَكَذَا إنْ كَذَّبَهُ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ، (وَاقْتَرَعَا) فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ أَنَّهَا لَهُ؛ لِاحْتِمَالِ عَدَمِهِ، وَأَخَذَهَا بِمُقْتَضَى الْقُرْعَةِ، (فَإِنْ نَكَّلَ) الْوَدِيعُ عَنْ الْيَمِينِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ صَاحِبَهَا (حُكِمَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَأُلْزِمَ) بِتَعْيِينِ صَاحِبِهَا، فَإِنْ أَبَى تَعْيِينُهُ؛ أُلْزِمَ (بِبَدَلِهَا أَيْضًا) مِثْلِ الْمِثْلِيَّةِ وَقِيمَةِ الْمُتَقَوِّمَةِ، فَتُؤْخَذُ الْقِيمَةُ وَالْعَيْنُ أَوْ الْمِثْلُ وَالْعَيْنُ، وَإِذَا أَخَذَاهُمَا (اقْتَرَعَا عَلَيْهِمَا).
قَالَ فِي التَّلْخِيصِ: وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَعْلَمُ الْمُسْتَحِقَّ، وَلَا أَحْلِفُ، (فَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِالْعَيْنِ لِأَخْذِ الْقِيمَةِ رُدَّتْ إلَيْهِ) الْعَيْنُ لِلْبَيِّنَةِ، وَتَقَدُّمِهَا عَلَى الْقُرْعَةِ، وَرُدَّتْ (الْقِيمَةُ لِلْمُودِعِ، وَلَا شَيْءَ لِلْقَارِعِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَيْهِ شَيْئًا، بَلْ الْمُفَوِّتُ الْبَيِّنَةُ، (وَيَأْتِي فِي) بَابِ (الدَّعَاوَى) بِأَوْضَحَ مِنْ هَذَا. (وَإِنْ أَوْدِعَاهُ) [- أَيْ:] اثْنَانِ- (مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا يَنْقَسِمُ) إجْبَارًا بِأَنْ لَمْ يَنْقُصْ بِتَفَرُّقِهِ، (فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ) مِنْ الْوَدِيعِ (لِغِيبَةِ شَرِيكِهِ أَوْ) حُضُورِهِ وَ(امْتِنَاعِهِ)؛ (سَلَّمَ) النَّصِيبَ (إلَيْهِ)- أَيْ: إلَى الطَّالِبِ- وُجُوبًا؛ لِأَنَّهُ أُمْكِنَ تَمْيِيزُ نَصِيبِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ بِغَيْرِ غَبَنٍ وَلَا ضَرَرٍ، فَإِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ؛ لَزِمَهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَ مُتَمَيِّزًا. هَذَا الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ وَالْمُذَهَّبِ ومَسْبُوكِ الذَّهَبِ وَالْمُسْتَوْعِبِ وَالْخُلَاصَةِ وَالتَّلْخِيصِ وَالْبُلْغَةِ وَالْوَجِيزِ وَغَيْرِهِمْ.
فَائِدَةٌ:
قَالَ الْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ: لَوْ كَانَ عَلَى الْوَدِيعِ دَيْنٌ بِقَدْرِ الْوَدِيعَةِ كَأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ الْوَدِيعُ أَلْفًا، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْوَدِيعُ: الَّذِي دَفَعْت إلَيْك وَفَاءً عَنْ الدَّيْنِ الْوَدِيعَةُ تَلِفَتْ، فَقَالَ الْمَالِكُ: بَلْ هُوَ الْوَدِيعَةُ وَالدَّيْنُ بِحَالِهِ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَدِيعِ. (وَلِمُودِعٍ وَمُضَارِبٍ وَمُسْتَأْجَرٍ وَمُرْتَهِنٍ) قَالَ الْبُهُوتِيُّ: قُلْت: وَمِثْلُهُمْ الْعَدْلُ بِيَدِهِ الرَّهْنُ وَالْأَجِيرُ عَلَى حِفْظِ عَيْنٍ وَالْوَكِيلُ فِيهِ وَالْمُسْتَعِيرُ وَالْمُجَاعِلُ عَلَى عَمَلِهَا (إنَّ غُصِبَتْ الْعَيْنُ)- أَيْ: الْوَدِيعَةُ- أَوْ مَالُ الْمُضَارَبَةِ أَوْ الرَّهْنِ أَوْ الْمُسْتَأْجَرَةِ (الْمُطَالَبَةِ بِهَا) مِنْ غَاصِبِهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ حِفْظِهَا الْمَأْمُورِ بِهِ. (وَيَتَّجِهُ) أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ ذَكَرَ الْمُطَالَبَةَ بِالْعَيْنِ إذَا غُصِبَتْ، وَلَا يَلْزَمُهُ (مَعَ حُضُورِ مَالِكِهَا). قَالَهُ الْمُوَفَّقُ، وَإِلَّا يَكُنْ مَالِكُ الْعَيْنِ حَاضِرًا (لَزِمَهُ) أَنْ يُطَالِبَ بِهَا (مَعَ خَوْفِ ضَيَاعٍ)؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا، وَذَلِكَ مِنْهُ وَهُوَ مُتَّجِهٌ. غَرِيبَةٌ: لَوْ أَوْدَعَ كِيسًا مَخْتُومًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ، وَادَّعَى أَنَّهُ فُضَّ خَتْمُهُ، وَأَنَّهُ خَالٍ صُدِّقَ الْمُودِعُ فَلَوْ فَتَحَ فَوَجَدَ فِيهِ دَرَاهِمَ مِنْ ضَرْبِ خَمْسِ سِنِينَ فَكَذَلِكَ. قَالَهُ فِي الْمُبْدِعِ. (وَلَا يَضْمَنُ مُودَعٌ أُكْرِهَ) عَلَى دَفْعِ الْوَدِيعَةِ وَلَوْ لَمْ يَنَلْهُ عَذَابٌ، بَلْ أُكْرِهَ (بِتَهْدِيدٍ عَلَى دَفْعِهَا لِغَيْرِ رَبِّهَا) قَالَهُ الْأَصْحَابُ. ذَكَرَهُ الْحَارِثِيُّ، وَذَكَرَ بِهِ الْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَوْ أَسْلَمَ لِوَدِيعَةٍ كُرْهًا لَمْ يَضْمَنْ، وَقَالَ: وَإِنْ صَادَرَهُ سُلْطَانٌ لَمْ يَضْمَنْ. قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَهَذَا الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْهُمْ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ وَالْمُوَفَّقِ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ وَصَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَغَيْرُهُمْ. (وَإِنْ طَلَبَ يَمِينَهُ) أَيْ: الْوَدِيعِ- أَنْ لَا وَدِيعَةَ لِفُلَانٍ عِنْدَهُ، (وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا) مِنْ الْحَلِفِ بِأَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ يَمِينَهُ مُتَغَلِّبًا عَلَيْهِ بِسُلْطَتِهِ أَوْ تَلَصُّصٍ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهُ إلَّا بِالْحَلِفِ؛ (حَلَفَ وَتَأَوَّلَ)، فَيَنْوِي لَا وَدِيعَةَ عِنْدِي لِفُلَانٍ فِي مَوْضِعِ كَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّذِي لَيْسَتْ بِهَا وَنَحْوِهِ، وَلَمْ يَحْنَثْ لِتَأَوُّلِهِ، (فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حَتَّى أَخَذَهُ مِنْهُ ضَمِنَهَا خِلَافًا لِأَبِي الْخَطَّابِ)؛ لِتَفْرِيطِهِ بِتَرْكِ الْحَلِفِ، كَمَا لَوْ سَلَّمَهَا إلَى غَيْرِ رَبِّهَا ظَانًّا أَنَّهُ هُوَ، فَتَبَيَّنَ خَطَؤُهُ، وَقِيلَ: (لَا يَأْثَمُ إنْ حَلَفَ) الْوَدِيعُ (مُكْرَهًا) أَنَّهُ لَا وَدِيعَةَ لِفُلَانٍ عِنْدَهُ، (وَلَمْ يَتَأَوَّلْ مَعَ ضَرَرِ تَغْرِيمٍ كَثِيرًا، وَلَا يُكَفِّرُ) عَنْ يَمِينِهِ، (خِلَافًا لَهُمَا)- أَيْ: لِلْمُنْتَهَى وَالْإِقْنَاعِ (فِيهِمَا)- أَيْ: فِي عَدَمِ الْإِثْمِ وَعَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ- كَذَا قَالَ، وَعِبَارَةُ الْمُنْتَهَى وَيَأْثَمُ إنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ، وَهُوَ دُونَ إثْمِ إقْرَارِهِ بِهَا، وَيُكَفِّرُ، وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ وَإِنْ حَلَفَ وَلَمْ يَتَأَوَّلْ؛ أَثِمَ، وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَإِنْ حَلَفَ، وَلَمْ يَتَأَوَّلْ أَثِمَ، وَقَالَ: الصَّوَابُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ مَعَ إمْكَانِ التَّأْوِيلِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَعِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ، ثُمَّ وَجَدْته فِي الْفُرُوعِ فِي بَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ قَالَ: وَيُكَفِّرُ عَلَى الْأَصَحِّ انْتَهَى.
وَكَوْنُهُ يَأْثَمُ إذَا لَمْ يَتَأَوَّلْ لِحَلِفِهِ كَاذِبًا، لَكِنَّ إثْمَ حَلِفِهِ دُونَ إثْمِ إقْرَارِهِ بِهَا؛ لِأَنَّ حِفْظَ مَالِ الْغَيْرِ عَنْ الضَّيَاعِ آكَدُ مِنْ بِرِّ الْيَمِينِ. (وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ) أَنَّهُ لَا وَدِيعَةَ عِنْدَهُ لِفُلَانٍ، فَأَجَابَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَفِيهِ بَحْثٌ. وَحَاصِلُهُ (إنْ كَانَ ضَرَرُ التَّغْرِيمِ كَثِيرًا) يُوَازِي الضَّرَرَ فِي صُوَرِ الْإِكْرَاهِ؛ (فَهُوَ إكْرَاهٌ لَا يَقَعُ وَلَا يُوقِعُ) عَلَى الْمَذْهَبِ. انْتَهَى.
(وَلَمْ يَقُولُوا)- أَيْ: الْأَصْحَابُ- (وَتَأَوَّلَ)؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَلْزَمُهُ تَأْوِيلٌ؛ لِعَدَمِ انْعِقَادِ يَمِينِهِ، وَفِي فَتَاوَى ابْنِ الزَّاغُونِيِّ: إنْ أَبَى الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ، فَصَارَ ذَرِيعَةً إلَى أَخْذِهَا؛ فَكَإِقْرَارِهِ طَائِعًا وَهُوَ تَفْرِيطٌ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، نَقَلَهُ فِي الْفُرُوعِ فِي بَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ. وَإِنْ نَادَى السُّلْطَانُ (بِتَهْدِيدِهِ مَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ وَيُنْكِرُهَا) فَجَزَاؤُهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمُعَاقَبَةِ، أَوْ نَادَى بِتَهْدِيدِ (مَنْ لَمْ يَحْمِلْ وَدِيعَةَ فُلَانٍ) عُمِلَ بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّهْدِيدِ، (فَحَمَلَهَا بِلَا مُطَالَبَةٍ؛ أَثِمَ) إنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ، وَبِهَذَا أَجَابَ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عُقَيْلٍ فِي فَتَاوِيهِمَا. وَإِنْ عَيَّنَهُ بِالتَّهْدِيدِ، فَلَا ضَمَانَ.
تَتِمَّةٌ:
إذَا اُسْتُوْدِعَ فِضَّةً وَأُمِرَ بِصَرْفِهَا بِذَهَبٍ، فَفَعَلَ وَتَلِفَ الذَّهَبُ، لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ قَالَ: اصْرِفْ مَا لِي عَلَيْك مِنْ قَرْضٍ، فَفَعَلَ وَتَلِفَ؛ ضَمِنَهُ، وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْقَرْضِ. قَالَهُ فِي الْمُبْدِعِ.

.(بَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ):

الْمَوَاتُ وَالْمَيْتَةُ وَالْمَيْتَانِ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْوَاوِ- الْأَرْضُ الدَّارِسَةُ الْخَرَابُ. قَالَهُ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ وَعَرَّفَهَا الْأَزْهَرِيُّ بِأَنَّهَا الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَالِكٌ وَلَا بِهَا مَاءٌ وَلَا عِمَارَةٌ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا. وَالْمَوَاتُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمَوْتِ، وَهُوَ عَدَمُ الْحَيَاةِ، وَالْمَوْتَانُ- بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ- الْمَوْتُ الذَّرِيعُ، وَرَجُلٌ مَوْتَانُ الْقَلْبِ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ- يَعْنِي أَعْمَى الْقَلْبِ لَا يَفْهَمُ، وَفِي الْقَامُوسِ الْمَوَاتُ كَغُرَابِ الْمَوْتِ وَكَسَحَابِ مَا لَا رُوحَ فِيهِ وَأَرْضٌ لَا مَالِكَ لَهَا، وَالْمَوَتَانُ- بِالتَّحْرِيكِ- خِلَافُ الْحَيَوَانِ أَوْ أَرْضٌ لَمْ تَحْيَا بَعْدُ، (وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُنْفَكَّةُ عَنْ الِاخْتِصَاصَاتِ وَمِلْكٍ مَعْصُومٍ) مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِّ: فَيَدْخُلُ كُلُّ مَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَخَرَجَ كُلُّ مَا لَا يُمْلَكُ بِهِ. انْتَهَى، وَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهِ حَدِيثُ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ».
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ مِثْلُهُ رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هُوَ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ مُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْ أَسْمَرَ بْنِ مُضَرِّسٍ قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ، فَقَالَ: مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ. قَالَ: فَخَرَجَ النَّاسُ يَتَعَادَوْنَ يَتَخَاطُّونَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «الْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ وَالْبِلَادُ بِلَادُ اللَّهِ فَمَنْ أَحْيَا مِنْ مَوَاتِ الْأَرْضِ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ» رَوَاه أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ.
قَالَ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ: وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْمَوَاتَ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي شَرْطِهِ. (فَيُمْلَكُ بِإِحْيَاءِ كُلِّ مَا)- أَيْ: مَوَاتٍ- (لَمْ يَجُرَّ عَلَيْهِ بَيْنَ مِلْكِ مَعْصُومٍ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ عِمَارَةٌ).
قَالَ فِي الْمُغْنِي بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ الْقَائِلِينَ بِالْإِحْيَاءِ انْتَهَى.
وَنَقَلَ أَبُو الصَّقْرِ فِي أَرْضٍ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ لَيْسَ فِيهَا مَزَارِعُ وَلَا عُيُونٌ وَأَنْهَارٌ تَزْعُمُ كُلُّ قَرْيَةٍ أَنَّهَا لَهُمْ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لِهَؤُلَاءِ وَلَا لِهَؤُلَاءِ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُمْ أَحْيَوْهَا، فَمَنْ أَحْيَاهَا فَلَهُ، وَمَعْنَاهُ نَقَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَانَ الْخَرَابُ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِيهِ أَثَرُ عِمَارَةٍ تَتَحَقَّقُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ (مَلَكَهُ مَنْ لَهُ حُرْمَةٌ) مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ، (أَوْ) مَلَكَهُ مَنْ (شُكَّ)- بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ- (فِيهِ)- أَيْ: فِي مَنْ كَانَ مَالِكًا لَهُ- هَلْ كَانَ مِمَّنْ لَهُ حُرْمَةٌ أَوْ لَا؟ وَلَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ، (فَإِنْ وُجِدَ) مَالِكُهُ أَوْ وُجِدَ (أَحَدٌ مِنْ وَرَثَتِهِ لَمْ يُمْلَكْ بِإِحْيَاءٍ).
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا عُرِفَ بِمِلْكِ مَالِكٍ غَيْرِ مُنْقَطِعٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ لِأَحَدٍ غَيْرِ أَرْبَابِهِ. انْتَهَى.
(وَكَذَا إنْ جَهِلَ) مَالِكَهُ بِأَنْ لَمْ تُعْلَمْ عَيْنُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِجَرَيَانِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ لِذِي حُرْمَةٍ، فَلَا يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ نَصًّا عَلَيْهِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ». وَهَذِهِ مَمْلُوكَةٌ، وَلِأَنَّ هَذَا مَكَانٌ مَمْلُوكٌ، فَلَمْ يُمْلَكْ بِإِحْيَاءٍ؛ كَمَا لَوْ كَانَ مَالِكُهُ مُعَيَّنًا، (وَإِنْ عَلِمَ) مَالِكَهُ وَأَنَّهُ مَاتَ، (وَلَمْ يُعَقِّبْ) ذُرِّيَّةً وَلَا وَارِثًا؛ لَمْ يَمْلِكْ أَيْضًا بِالْإِحْيَاءِ (وَأَقْطَعَهُ الْإِمَامُ) لِمَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ فَيْءٌ. (وَإِنْ مَلَكَ بِإِحْيَاءٍ ثُمَّ تَرَكَ حَتَّى دَثَّرَ، وَعَادَ مَوَاتًا؛ لَمْ يَمْلِكْ بِإِحْيَاءٍ إنْ كَانَ لِمَعْصُومٍ) بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْأَصْحَابِ؛ لِمَفْهُومِ حَدِيثِ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ». وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِحَدِيثِ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمُحْيِي أَوَّلًا وَلَمْ يَزُلْ عَنْهَا بِالتَّرْكِ بِدَلِيلِ سَائِرِ الْأَمْلَاكِ، (وَإِنْ عُلِمَ مِلْكُهُ)- أَيْ: الدَّارِسِ الْخَرَابِ- (لِمُعَيَّنٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ) بِأَنْ كَانَ لِكَافِرٍ لَا ذِمَّةَ لَهُ وَلَا أَمَانَ، (فَإِنْ) كَانَ (أَحْيَاهُ بِدَارِ حَرْبٍ وَانْدَرَسَ كَانَ) ذَلِكَ (كَمَوَاتٍ أَصْلِيٍّ)؛ أَيْ: فَيَمْلِكُهُ مَنْ يُحْيِيهِ، لِأَنَّ مِلْكَ مَنْ لَا عِصْمَةَ لَهُ كَعَدَمِهِ، (وَإِنْ) لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ مِلْكٍ (تُرُدِّدَ فِي جَرَيَانِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ)؛ مَلَكَ الْإِحْيَاءَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ جَرَيَانِ الْمِلْكِ فِيهِ، (أَوْ كَانَ بِهِ)- أَيْ: الْخَرَابِ- (أَثَرُ مِلْكٍ غَيْرِ جَاهِلِيٍّ كَالْخَرِبِ)- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْعَكْسِ- وَكِلَاهُمَا جَمْعُ خِرْبَةٍ- بِسُكُونِ الرَّاءِ- وَهِيَ مَا تَهَدَّمَ مِنْ الْبُنَيَّانِ (الَّتِي ذَهَبَتْ أَنْهَارُهَا وَانْدَرَسَتْ آثَارُهَا، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهَا مَالِكٌ) الْآنَ؛ مَلَكَ بِالْإِحْيَاءِ؛ لِعُمُومِ مَا سَبَقَ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ الْحَرْبِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَابْنُ عَقِيلٍ وَالْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ وَأَبُو الْفَرَجِ الشِّيرَازِيُّ وَالْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ وَغَيْرُهُمْ، وَلِأَنَّ عَامِرَ دَارِ الْحَرْبِ إنَّمَا يُمْلَكُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ كَانَ بِهِ أَثَرُ مِلْكٍ (جَاهِلِيٍّ قَدِيمٍ) كَدِيَارِ عَادٍ وَآثَارِ الرُّومِ؛ فَيَمْلِكُهُ مَنْ أَحْيَاهُ لِمَا سَبَقَ، أَوْ كَانَ بِهِ أَثَرُ مِلْكٍ جَاهِلِيٍّ (قَرِيبٍ؛ مُلِكَ بِإِحْيَاءٍ)؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْمِلْكِ الَّذِي بِهِ لَا حُرْمَةَ لَهُ. (قَالَ الْحَارِثِيُّ: مَسَاكِنُ) دِيَارِ ( [ثَمُودَ] لَا تُمْلَكُ؛ لِعَدَمِ دَوَامِ الْبُكَاءِ مَعَ السُّكْنَى) [وَمَعَ الِانْتِفَاعِ] عَلَى رِوَايَةٍ، الْأَظْهَرُ خِلَافُهَا.
قَالَ الشَّارِحُ: النَّوْعُ الثَّانِي مَا يُوجَدُ فِيهِ آثَارُ مِلْكٍ قَدِيمٍ جَاهِلِيٍّ كَآثَارِ الرُّومِ وَمَسَاكِنِ ثَمُودٍ وَنَحْوِهِمْ؛ فَهَذَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ فِي أَظْهَرْ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْمِلْكَ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وَلِمَا رَوَى طَاوُسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَالَ عَادِي الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ بَعْدُ» رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْوَالِ.، وَقَالَ عَادِي الْأَرْضِ الَّتِي كَانَ بِهَا سَاكِنٌ فِي آبَادِ الدَّهْرِ فَانْقَرَضُوا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَنِيسٌ، فَنُسِبَ كُلُّ أَثَرٍ قَدِيمٍ إلَيْهِمْ. انْتَهَى.
وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي خِلَافًا فِي جَوَازِ إحْيَائِهِ.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَهُوَ طَرِيقَةُ صَاحِبِ الْمُحَرَّرِ والْوَجِيزِ وَغَيْرِهِمَا.
قَالَ الْحَارِثِيُّ وَهُوَ الْحَقُّ وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ فَإِنَّ أَحْمَدَ وَأَصْحَابَهُ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُمْ فِي الْبِئْرِ الْعَادِيَّةِ وَهُوَ نَصٌّ مِنْهُ فِي خُصُوصِ النَّوْعِ، وَصَحَّحَ الْمَلِكُ فِيهِ بِالْإِحْيَاءِ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَالْفَائِقِ وَالْفُرُوعِ والتَّصْحِيحِ وَغَيْرُهُمْ، انْتَهَى.
(وَيُكْرَهُ دُخُولُ دِيَارِهِمْ)- أَيْ: ثَمُودَ- (إلَّا لِبَاكٍ مُعْتَبِرٍ، لِئَلَّا يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ) مِنْ الْعَذَابِ؛ لِلْخَبَرِ (وَمَنْ أَحْيَا) مِمَّا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ، (وَلَوْ) كَانَ الْإِحْيَاءُ (بِلَا إذْنِ الْإِمَامِ). قَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ مُسْتَدِلًّا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ مُبَاحَةٌ، فَلَا: يَفْتَقِرُ تَمَلُّكُهَا إلَى إذْنٍ كَأَخْذِ الْمُبَاحِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ عُمُومَ الْأَشْخَاصِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَحْوَالِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُحْيِي مُسْلِمًا (أَوْ ذِمِّيًّا) اتِّفَاقًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مُكَلَّفًا أَوْ لَا، لَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْمَالَ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِفِعْلِهِ كَالِاصْطِيَادِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ». جَوَابُهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ أَنَّهَا لَكُمْ- أَيْ: لِأَهْلِ دَارِكُمْ- وَالذِّمِّيُّ مِنْ دَارِنَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُنَا، فَيَمْلِكُ الْأَرْضَ الْمُحْيَاةَ بِالْإِحْيَاءِ، كَمَا يَمْلِكُهَا بِالشِّرَاءِ، وَيَمْلِكُ مُبَاحَاتِهَا مِنْ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالصَّيُودِ وَالرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ وَاللُّقَطَةِ، وَهِيَ مِنْ مَرَافِقِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَكَذَلِكَ الْمَوَاتُ (مَوَاتًا) فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهَا؛ إذْ جَمِيعُ الْبِلَادِ سَوَاءٌ، (سِوَى مَوَاتِ الْحَرَمِ وَعَرَفَاتٍ)، فَلَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ مُطْلَقًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّضْيِيقِ فِي أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ وَاخْتِصَاصِهِ بِمَحَلٍّ النَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَمِنًى وَمُزْدَلِفَةُ مِنْ الْحَرَمِ كَمَا سَبَقَ، فَلَا إحْيَاءَ بِهِمَا.
تَتِمَّةٌ:
مَوَاتُ الْعَنْوَةِ كَأَرْضِ الشَّام وَالْعِرَاقِ كَغَيْرِهِ مِمَّا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ كَالْمَدِينَةِ، وَمَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيُمْلَكُ مَوَاتُ الْعَنْوَةِ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا خَرَاجَ عَلَى مُسْلِمٍ أَحْيَا مَوَاتَ أَرْضِ الْعَنْوَةِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ لَيْسَ فِي أَرْضِ السَّوَادِ مَوَاتٌ مُعَلِّلًا بِأَنَّهَا لِجَمَاعَةٍ، فَلَا يَخْتَصُّ بِهَا أَحَدُهُمْ حَمَلَهَا الْقَاضِي عَلَى الْعَامِرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَهُ؛ لِكَوْنِ السَّوَادِ كَانَ عَامِرًا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَحِينَ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْكُفَّارِ، (وَ) سِوَى (مَا أَحْيَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ أَرْضِ كُفَّارٍ صُولِحُوا عَلَى أَنَّهَا)- أَيْ: الْأَرْضَ (لَهُمْ وَلَنَا الْخَرَاجُ عَنْهَا)، لِأَنَّهُمْ صُولِحُوا فِي بِلَادِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لِشَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ تَابِعٌ لِلْبَلَدِ، وَيُفَارِقُ دَارَ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، (وَ) سِوَى (مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ) عُرْفًا؛ لِأَنَّ التَّحْدِيدَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ لَا بِالرَّأْيِ، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ الشَّرْعِ تَحْدِيدٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ كَالْقَبْضِ وَالْإِحْرَازِ، وَمَا قِيلَ: إنَّ حَدَّ الْقَرِيبِ خُمُسُ خُمُسِ الْفَرْسَخِ، وَإِذَا وَقَفَ الرَّجُلُ بِأَعْلَاهُ فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ لَمْ يَسْمَعْ أَدْنَى أَهْلِ الْمِصْرِ إلَيْهِ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَدًّا لِكُلِّ مَا قَرُبَ مِنْ عَامِرٍ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي لِأَنَّ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فِي مَوَاتٍ حُرِّمَ إحْيَاءُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَوَاتِ عَلَى غَيْرِهِ، مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْحَدِّ (وَتَعَلَّقَ بِمَصَالِحِهِ كَطُرُقِهِ وَفِنَائِهِ) مَا اتَّسَعَ أَمَامَهُ (وَمَسِيلِ مَائِهِ وَمَرْعَاهُ وَمُحْتَطَبِهِ وَحَرِيمِهِ)- أَيْ: حَرِيمِ بِئْرِهِ وَحَرِيمِ نَهْرِهِ وَحَرِيمِ عَيْنِ مَائِهِ- (وَمَطْرَحِ تُرَابِهِ) وَقُمَامَتِهِ وَمُلْقَى آلَاتِهِ الَّتِي لَا نَفْعَ بِهَا وَمُرْتَكَضِ خَيْلٍ (وَمَدْفِنِ مَوْتَى وَمُنَاخِ إبِلٍ وَمَنَازِلِ مُسَافِرِينَ مُعْتَادَةٍ) حَوْلَ الْمِيَاهِ وَبِقَاعٍ مُرْصَدَةٍ لِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْجَنَائِزِ؛ (مَلَكَهُ) جَوَابُ مَنْ؛ لِمَفْهُومِ حَدِيثِ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً مِنْ غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ فَهِيَ لَهُ». وَلِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْمَمْلُوكِ، فَأُعْطِيَ حُكْمُهُ، وَيَمْلِكُهُ مُحْيِيهِ (بِمَا فِيهِ مِنْ كَنْزٍ) جَاهِلِيٍّ (وَمَعْدِنٍ جَامِدٍ بَاطِنٍ كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَحَدِيدٍ) وَنُحَاسٍ وَرَصَاصٍ وَبَلُّورٍ وَمِنْ مَعْدِنٍ جَامِدٍ (ظَاهِرٍ كَجَصٍّ)- وَهُوَ النُّورَةُ (وَكُحْلٍ وَكِبْرِيتٍ) وَزِرْنِيخَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَطَبَقَاتِهَا، وَهَذَا مِنْهَا، فَتَبِعَهَا فِي الْمِلْكِ، وَيُفَارَقُ الْكَنْزُ الْإِسْلَامِيُّ فَإِنَّهُ لَا يُمْلَكُ مَا فِيهَا مِنْ كَنْزٍ عَلَيْهَا فِيهِ عَلَامَةُ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا لِلنَّقْلِ عَنْهَا، وَلَيْسَ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمُحْيِي الْمَعَادِنَ الَّتِي أَحْيَاهَا إذَا حَفَرَهَا وَأَظْهَرَهَا.
قَالَ فِي الشَّرْحِ وَالْمُبْدِعِ: وَلَوْ تَحَجَّرَ الْأَرْضَ وَأَقْطَعَهَا، فَظَهَرَ فِيهَا الْمَعْدِنُ قَبْلَ إحْيَائِهَا كَانَ لَهُ إحْيَاؤُهَا، وَيَمْلِكُهَا بِمَا فِيهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِتَحَجُّرِهِ وَإِقْطَاعِهِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ إتْمَامِ حَقِّهِ [وَ (لَا) يَمْلِكُ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَا فِيهَا مِنْ مَعْدِنٍ (جَارٍ كَمَا يَأْتِي) قَرِيبًا. (وَلَا) يَمْلِكُ إنْسَانٌ] مَا أَحْيَاهُ مِنْ (مَعْدِنٍ مُطْلَقًا) ظَاهِرًا كَانَ أَوْ بَاطِنًا (بِإِحْيَائِهِ) لَهُ (مُفْرَدًا) عَنْ غَيْرِهِ، أَمَّا الظَّاهِرُ وَهُوَ الَّذِي يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُؤْنَةٍ يَنْتَابُهُ النَّاسُ وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ كَمَقْطَعِ الطِّينِ وَالْمِلْحِ وَالْكُحْلِ وَالْكِبْرِيتِ وَالْقَارِ وَالْمُومْيَا وَالنَّفْطِ وَالْبِرَامِ وَالْيَاقُوتِ؛ فَبِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِينَ وَتَضْيِيقًا عَلَيْهِمْ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ أَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ مَعْدِنَ الْمِلْحِ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْعَدِّ؛ رَدَّهُ».
قَالَ أَحْمَدُ: وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِمْ عَنْ أَبْيَضَ بْنِ حَمَّالٍ «أَنَّهُ اسْتَقْطَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِلْحَ الَّذِي بِمَأْرَبٍ فَلَمَّا وَلَّى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَدْرِي مَا أَقْطَعْت لَهُ؟ إنَّمَا أَقْطَعْته الْمَاءَ الْعَدَّ فَرَجَعَهُ مِنْهُ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُحْمَى مِنْ الْأَرَاكِ؟ قَالَ: مَا لَمْ تَنَلْهُ أَخْفَافُ الْإِبِلِ»، وَلِأَنَّ هَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةُ؛ فَلَمْ يَجُزْ إحْيَاؤُهُ وَلَا إقْطَاعُهُ؛ كَمَشَارِعِ الْمَاءِ وَطُرُقَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: هَذَا مِنْ مَوَادِّ اللَّهِ الْكَرِيمِ وَفَيْضِ جُودِهِ الَّذِي لَا غِنَى عَنْهُ، فَلَوْ مَلَكَهُ أَحَدٌ بِالِاحْتِجَارِ مَلَكَ مَنْعَهُ، فَضَاقَ عَلَى النَّاسِ، وَإِنْ أَخَذَ الْعِوَضَ عَنْهُ أَغْلَاهُ، فَخَرَجَ عَنْ الْوَضْعِ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَعْمِيمِ ذَوِي الْحَوَائِجِ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ.
قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، وَأَمَّا الْبَاطِنُ وَهُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ فِي إخْرَاجِهِ إلَى حَفْرٍ وَمُؤْنَةٍ كَحَدِيدٍ وَنُحَاسٍ وَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَجَوْهَرٍ؛ فَلَا يَمْلِك بِإِحْيَائِهِ مُفْرَدًا؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ الَّذِي يُمْلَكُ بِهِ هُوَ الْعِمَارَةُ الَّتِي يَتَهَيَّأُ بِهَا الْمُحْيِي لِلِانْتِفَاعِ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ عَمَلٍ، وَهَذَا حَفْرٌ وَتَخْرِيجٌ يَحْتَاجُ إلَى تَكْرَارٍ عِنْدَ كُلِّ انْتِفَاعٍ. (وَيَتَّجِهُ وَلَا) يَمْلِكُ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا (مَا)- أَيْ: مَعْدِنًا (كَانَ) فِيهِمَا (ظَاهِرًا لِلنَّاسِ)، وَتَقَدَّمَتْ لَك أَمْثِلَةُ الظَّاهِرِ (يَأْخُذُونَهُ قَبْلَ إحْيَاءِ) تِلْكَ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ فِي مِلْكِهِ إذْنٌ قَطْعًا لِنَفْعٍ كَانَ وَاصِلًا إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْعًا لِانْتِفَاعِهِمْ، وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ بِإِظْهَارِهِ [فَإِنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ عَنْهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ظَهَرَ بِإِظْهَارِهِ]، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَ) يَجِبُ (عَلَى ذِمِّيٍّ خَرَاجُ مَا أَحْيَا مِنْ مَوَاتِ الْأَرْضِ) فُتِحَتْ (عَنْوَةً) كَأَرْضِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا تُقَرُّ فِي يَدِ غَيْرِهِمْ بِدُونِ الْخَرَاجِ؛ كَغَيْرِ الْمَوَاتِ، أَمَّا غَيْرُ الْعَنْوَةِ- وَهُوَ مَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى أَنْ الْأَرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ إذَا أَحْيَا الذِّمِّيُّ فِيهِ مَوَاتًا- فَهُوَ كَالْمُسْلِمِ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ فِيمَا أَحْيَاهُ مِنْ أَرْضِ الْعَنْوَةِ وَالصُّلْحِ وَمَا أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا كَالْمَدِينَةِ؛ إذْ الْأَرْضُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِنْهُمْ. (وَيُمْلَكُ بِإِحْيَاءٍ وَيُقْطَعُ)- بِبِنَاءِ الْفِعْلَيْنِ لِلْمَفْعُولِ- (مَا)- أَيْ: مَحِلُّ- (إذَا حَصَلَ فِيهِ الْمَاءُ صَارَ مِلْحًا)؛ لِأَنَّهُ لَا تَضِيقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِإِحْدَاثِهِ، بَلْ يَحْدُثُ نَفْعُهُ بِفِعْلِهِ بِالْعَمَلِ فِيهِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ كَبَقِيَّةِ الْمَوَاتِ، وَإِحْيَاءُ هَذَا بِتَهْيِئَتِهِ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ حَفْرِ تُرَابِهِ وَتَمْهِيدِهِ وَفَتْحِ قَنَاةٍ إلَيْهِ تَصُبُّ الْمَاءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ بِهَذَا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، (أَوْ)؛ أَيْ: وَيُمْلَكُ بِإِحْيَاءِ مَا قَرُبَ (مِنْ الْعَامِرِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَصَالِحِهِ) نَصًّا كَالْبَعِيدِ عَنْهُ؛ لِعُمُومِ مَا سَبَقَ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ، وَهُوَ التَّعَلُّقُ بِمَصَالِحِ الْعَامِرِ، وَلِلْإِمَامِ إقْطَاعُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْعَقِيقَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ عَامِرِ الْمَدِينَةِ»، وَلِأَنَّهُ مَوَاتٌ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَامِرِ، فَجَازَ إحْيَاؤُهُ كَالْبَعِيدِ.
وَ(لَا) يُمْلَكُ بِإِحْيَاءِ (مَا)- أَيْ: مَكَان- (نَضَبَ)؛ أَيْ: غَارَ (مَاؤُهُ مِنْ الْجَزَائِرِ) وَالرُّقَاقِ، مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا. وَالرُّقَاقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ أَرْضٌ لَيِّنَةٌ أَوْ رِمَالٌ يَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.
قَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي الْحَاشِيَةِ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرْضٌ مُسْتَوِيَةٌ لَيِّنَةُ التُّرَابِ تَحْتَهَا صَلَابَةٌ.
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى: إذَا نَضَبَ الْمَاءُ عَلَى جَزِيرَةٍ إلَى فِنَاءِ رَجُلٍ لَمْ يَبْنِ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَرْجِعُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَإِذَا وَجَدَهُ مَبْنِيًّا رَجَعَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَأَضَرَّ بِأَهْلِهِ، وَلِأَنَّ الْجَزَائِرَ مَنْبَتُ الْكَلَأِ وَالْحَطَبِ، فَجَرَتْ مَجْرَى الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا حِمَى فِي الْأَرَاكِ». وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَبَاحَ الْجَزَائِرَ؛ أَيْ: مَا نَبَتَ فِيهَا. وَفِي الْإِقْنَاعِ أَمَّا مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنْ الْجَزَائِرِ وَالرُّقَاقِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا فَكُلُّ أَحَدٍ أَحْيَاهُ كَمَوَاتٍ، وَكَانَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: خِلَافًا لَهُ. (وَلَا) يَمْلِكُ بِإِحْيَاءِ (مَا غَمَرَهُ الْمَاءُ مِنْ) مَكَان (مَمْلُوكٍ) بِأَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ، ثُمَّ نَضَبَ عَنْهُ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُلَّاكِهِ قَبْلَ غَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ؛ فَلَهُمْ أَخْذُهُ؛ لِعَدَمِ زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَنْهُ.
فَائِدَةٌ:
وَإِنْ كَانَ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ فَعَمَّرَهُ إنْسَانٌ عِمَارَةً لَا تَرِدُ الْمَاءَ مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَزْرَعَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَحَجِّرٌ بِمَا لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ، فَأَشْبَهَ الْمُتَحَجِّرَ فِي الْمَوَاتِ. (وَإِنْ ظَهَرَ فِيمَا أَحْيَا) مِنْ مَوَاتٍ (عَيْنُ مَاءٍ، أَوْ) ظَهَرَ (مَعْدِنٌ جَارٍ)، وَهُوَ الَّذِي كُلَّمَا أُخِذَ مِنْهُ شَيْءٌ خَلَفَهُ عِوَضُهُ (كَنَفْطٍ وَقَارٍ أَوْ) ظَهَرَ فِيهِ (كَلَأٌ أَوْ شَجَرٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) لِأَنَّهُ فِي مِلْكِهِ خَارِجٌ مِنْ أَرْضِهِ، أَشْبَهَ الْمَعَادِنَ الْجَامِدَةَ وَالزَّرْعَ؛ لِحَدِيثِ: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ أَحَدٌ فَهُوَ لَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي لَفْظٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فَهُنَا أَوْلَى، (وَلَا يَمْلِكُهُ)؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ فِي الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ» رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَابْنُ مَاجَهْ. وَزَادَ وَثَمَنُهُ حَرَامٌ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ؛ فَلَمْ تُمْلَكْ بِمِلْكِهَا كَالْكَنْزِ. (وَمَا فَضَلَ مِنْ مَائِهِ) الَّذِي فِي قَرَارِ الْعَيْنِ أَوْ فِي قَرَارِ الْبِئْرِ، وَلَمْ يُحْزِهِ (عَنْ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ عِيَالِهِ وَمَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ يَجِبُ بَذْلُهُ لِبَهَائِمِ غَيْرِهِ)، وَهُوَ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْمَذْهَبِ، وَيَجِبُ بَذْلُهُ لِزَرْعِهِ- أَيْ: غَيْرِهِ- عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ مِنْ الْمُفْرَدَاتِ أَيْضًا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ فَضْلَ مَا يُمْنَعُ بِهِ الْكَلَأُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الْكَلَإِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «مَنْ مَنَعَ فَضْلَ مَائِهِ أَوْ فَضْلَ كَلَئِهِ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَلَا يَتَوَعَّدُ عَلَى مَا يَحِلُّ (مَا لَمْ يَجِدْ) رَبُّ الْبَهَائِمِ وَالزَّرْعِ مَاءً (مُبَاحًا) فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا بِهِ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ ظَاهِرٌ فِي اخْتِصَاصِهِ بِمَحِلِّ الْحَاجَةِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةً لَمْ يَجِبْ الْبَذْلُ (أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ) الْبَاذِلُ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ مَمْنُوعٌ شَرْعًا (أَوْ يُؤْذِهِ) طَالِبُ الْمَاءِ (بِدُخُولِهِ) إلَيْهَا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إلَّا أَنْ يُؤْذِيَهُ بِالدُّخُولِ، أَوْ يَكُونَ لَهُ (فِيهِ)- أَيْ: الْبِئْرِ- (مَاءُ السَّمَاءِ، أَوْ يَخَافُ عَطَشًا؛ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْحِيَازَةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ؛ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، بِخِلَافِ الْعَدُوِّ، وَكَذَا لَوْ حَازَ الْمَاءَ الْعَدَّ فِي إنَاءٍ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ لِغَيْرِهِ إلَّا عِنْدَ الِاضْطِرَارِ بِشَرْطِهِ، وَإِذَا خِيفَ الْأَذَى بِوُرُودِ الْمَاشِيَةِ الْمَاءَ، بَعْدَ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَةِ رَبِّ أَرْضِهِ، فَيَجُوزُ لِرُعَاتِهَا سَوْقُ فَضْلِ الْمَاءِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ بِلَا مَفْسَدَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَذْلُ الْمَاءِ بَذْلَ حَبْلٍ وَدَلْوٍ وَبُكْرَةٍ؛ لِأَنَّهَا تُتْلَفُ بِالِاسْتِعْمَالِ أَشْبَهَتْ بَقِيَّةَ مَالٍ، لَكِنْ إنْ اُضْطُرَّ بِلَا ضَرَرٍ عَلَى رَبِّهَا؛ لَزِمَهُ بَذْلُهَا. (وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا) بِأَرْضٍ (مَوَاتٍ لِلسَّابِلَةِ)؛ أَيْ: لِنَفْعِ الْمُجْتَازِينَ، (فَحَافِرٌ كَغَيْرِهِ) مِنْ الْمُجْتَازِينَ بِهَا؛ كَمَنْ بَنَى مَسْجِدًا، (فِي سَقْيٍ وَزَرْعٍ وَشُرْبٍ). قَالَهُ الْأَصْحَابُ؛ لِأَنَّ الْحَافِرَ لَمْ يَخُصَّ بِهَا نَفْسَهُ وَلَا غَيْرَهُ (وَمَعَ ضِيقٍ فِيهِ) أَيْ: تَزَاحُمٍ- (يُسْقَى آدَمِيٌّ) أَوَّلًا لِحُرْمَتِهِ. (فَحَيَوَانٌ)؛ لِأَنَّ لَهُ حُرْمَةً (فَزُرِعَ) بَعْدَهُمَا.
(وَ) إنْ حَفَرَ الْبِئْرَ فِي مَوَاتٍ (ارْتِفَاقًا)؛ أَيْ: لِيَرْتَفِقَ هُوَ بِهَا كَحَفْرِ (السِّفَارَةِ) فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ بِئْرًا لِيَرْتَفِقُوا بِمَائِهَا وَكَحَفْرِ الْمُنْتَجَعَيْنِ كَالْأَعْرَابِ وَالتُّرْكُمَانِ يَنْتَجِعُونَ أَرْضًا فَيَحْفِرُونَ (لِشَرْعِهِمْ، وَ) لِشُرْبِ (دَوَابِّهِمْ؛ فَهُمْ)- أَيْ: الْحَافِرُونَ لَهَا (أَحَقُّ بِمَائِهَا مَا أَقَامُوا)- أَيْ: مُدَّةَ إقَامَتِهِمْ عَلَيْهَا- وَلَا يَمْلِكُونَهَا، (وَعَلَيْهِمْ)- أَيْ: الْحَافِرِينَ لَهَا- (بَذْلُ فَاضِلٍ) عَنْهُمْ مِنْ مَائِهَا (لِشَارِبٍ) فَقَطْ دُونَ نَحْوِ زَرْعٍ. قَالَهُ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَتَبِعَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالتَّرْغِيبِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الْفُرُوعِ، (وَبَعْدَ رَحِيلِهِمْ) عَنْ الْبِئْرِ (يَكُونُ) مَاؤُهَا (سَابِلَةً لِلْمُسْلِمِينَ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِمَّنْ يَحْفِرُهَا أَحَقَّ مِنْ الْآخَرِ (فَإِنْ عَادُوا) إلَيْهَا (كَانُوا أَحَقَّ بِهَا) مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْفِرُوهَا إلَّا لِأَجْلِ أَنْفُسِهِمْ، وَمِنْ عَادَتِهِمْ الرَّحِيلُ وَالرُّجُوعُ، فَلَمْ تَزُلْ أَحَقِّيَّتُهُمْ بِذَلِكَ. اخْتَارَ ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَصَوَّبَهُ فِي الْإِنْصَافِ.
(وَ) إنْ حَفَرَ إنْسَانٌ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ (تَمَلُّكًا فَهِيَ مِلْكٌ لِحَافِرٍ)؛ كَمَا لَوْ حَفَرَهَا بِمِلْكِهِ الْحَيِّ.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ جَزَمَ بِهِ الْحَارِثِيُّ وَغَيْرُهُ.
تَتِمَّةٌ:
لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْتَسْقِيَ مِنْ الْمَاءِ الْجَارِي لِشُرْبِهِ وَطَهَارَتِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَانْتِفَاعِهِ بِهِ فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُؤْثَرُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ رَبِّهِ إذَا لَمْ يَدْخُلْ إلَيْهِ فِي مَكَان مَحُوطٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَحِلُّ لِصَاحِبِهِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ ابْنَ السَّبِيلِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَأَمَّا مَا يُؤْثَرُ فِيهِ كَسَقْيِ الْمَاشِيَةِ الْكَثِيرَةِ، فَإِنَّ فَضْلَ الْمَاءِ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ؛ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ الْحَارِثِيُّ: الْفَضْلُ الْوَاجِبُ بَذْلُهُ مَا فَضَلَ عَنْ شَفَتِهِ وَشَفَةِ عِيَالِهِ وَعَجِينِهِمْ وَطَبِيخِهِمْ وَطَهَارَتِهِمْ وَغَسْلِ ثِيَابِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَنْ مَوَاشِيهِ وَمَزَارِعِهِ وبَسَاتِينِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ حَاجَتِهِ.